]حكم قول "لا تقل يا رب عندي هم كبير ولكن قل يا هم عندي رب كبير". السؤال :
ما حكم قول لا تقل يا رب عندي هم كبير ولكن قل يا هم عندي رب كبير؟
الجواب:
عبارة قرأتها كثيرا في أكثر من منتدى ، وفي أكثر من توقيع ، ومرّت بي
العِبَارة كثيرا ! إلاّ أنها استوقفتني مَرّة مِن الْمَرّات ، فوقفتُ
مُتأمِّلاً في قولهم : لا تَقُل : يا رب عندي هَـمّ كبير ، ولكن قُل : يا
هـمّ عندي ربّ كبير ! فتذّكَرتُ شَكوى نبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام ،
حينما بَثّ حُزنه وشكواه إلى الله ، فقال : ( إِنَّمَا
أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ) .
قال ابن كثير في تفسير الآية : (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي
وَحُزْنِي) أي : هَمِّي وما أنا فيه (إِلَى
اللَّهِ) وَحْدَه . اهـ .
وقال ابن عادل الحنبلي : والبَثُّ : أشَدُّ الحزن ، كأنَّه لِقُوّته لا
يُطاق حَمْله . اهـ .
وقال القاسمي : أي : لا أشكو إلى أحدٍ منكم ومِن غيركم ، إنما أشكو إلى ربي
داعيًا له ، وملتجئا إليه ، فَخَلّوني وشِكايتي . ( وَأَعْلَمُ
مِنَ اللّهِ ) أي : لمن شكا إليه من إزالة الشكوى ، ومَزِيد الرحمة
: ( مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) ما يُوجب حُسن الظن
به ، وهو مع ظنّ عَبْدِه بِه . اهـ .
ووقفتُ مع شكوى الْمُجادِلَة .. (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ)
وفي بعض الآثار : " قالت : أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفِراق زوجي "
.
فالْهَمّ العظيم لا يُشكَى إلاّ إلى الله ؛ لأنه لا يَكشفه إلاّ الله .
فَشَكوى الْهَـمّ إلى الله مشروعة ، بل هي مطلوبة شرعا ..
واشتُهِر عن عليّ رضي الله عنه قوله : أشكو إلى الله عُجَري وبُجَري .
قال الأصمعي : يعني همومي وأحزاني .
قال أبو إسحاق الشيرازي :
لبِستُ ثوب الرَّجا والناس قد رقدوا *** وَقمِتُّ
أشكوا إلى مولاي ما أجـدُ
وقُلتُ يا أمَلـي فـي كـلِّ نائبـة *** ومَن عليه لكشف الضُّـرِّ أعتمد
أشكو إليك أمـوراً أنـت تعلمهـا *** ما لي على حملها صبرٌ ولا جلـدُ
وقد مدَدْتُ يدِي بالـذُّلِّ مبتهـلاً *** أليك يا خير من مُـدَّتْ أليـه
يـدُ
فـلا ترُدَّنهـا يـا ربِّ خائـبـةً *** فبَحْرُ جودِكَ يروي كل مـنْ يَـرِد
ولا يعني هذا أن لا يُشكَى إلى غير الله ؛ لأن في الشكوى تخفيفا وتسلية ..
" وهذا ما لم يكن الـتَّشَكِّي على سَبيل الـتَّسَخُّط ، والصبر والتجلّد
في النوائب أحسن ، والتعفف عن المسألة أفضل ، وأحسن الكلام في الشكوى سؤال
المولى زوال البلوى " كما قال القرطبي .
وربما شَكَا الصحابة الكرام رضي الله عنهم إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يَجِدون ..
قَال خَبَّاب بْن الأرَتّ رضي الله عنه : شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي
ظِلِّ الْكَعْبَةِ .. رواه البخاري .
وقال رضي الله عنه : شَكونا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الصلاة في
الرمضاء فَلَم يُشْكِنا . رواه مسلم .
وفي المسْنَد : قال الزبير بن عدي : شَكونا إلى أنس بن مالك ما نلقى من
الحجاج ! فقال : اصبروا فإنه لا يأتي عليكم عام - أو يوم - إلاّ الذي بعده
شرّ منه ، حتى تلقوا ربكم عز وجل . سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم .
قال أبو طلحة رضي الله عنه : شَكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
الجوع .. رواه الترمذي .
وقال الحارث بن يزيد البكري : خرجتُ أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم .. رواه الإمام أحمد .
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و
سلم يشكو جارَه ... رواه أبو داود .
وعند البخاري من حديث عَدِيّ بْن حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال :
كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَجَاءَهُ رَجُلانِ ؛ أَحَدُهُمَا يَشْكُو الْعَيْلَة ، وَالآخَرُ يَشْكُو
قَطْعَ السَّبِيلِ ...
والعَيْلة : هي الفَقْر .
قال القرطبي في تفسيره : فأما الشكوى على غير مُشْكٍ فهو السَّفَه ، إلاَّ
أن يكون على وَجه البثّ والـتَّسَلِّي . اهـ .
وعلى كُلّ فإن قولهم : " لا تَقُل : يا
رب عندي هَـمّ كبير ، ولكن قُل : يا هـمّ عندي ربّ كبير " ، وإن كان ما
قَصَدُوه وَاضِحًا ، إلاّ أنّ قولهم : " لا تَقُل : يا رب عندي هَـمّ كبير "
، مُتضمّن لِعدم شكوى الْهَمّ إلى الله .. وهذا خِلاف المشروع من شكوى
الْهَمّ إلى الله الذي بِيدِه مفاتيح الفَرَج ..
وأنشد بعضهم :
إذا الحادثات بَلَغْنَ الْمَدَى *** وكادت تَذوب
لَهُنّ الْمَهْج
وحَلّ البلاء وقَلّ العَزاء *** فعند التناهي يكون الفَرَج
]عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
عضو مركز الدعوة والارشاد بالرياض.
رمضان 1429 هـ