قصة إبتلاء وصبر
التابعي الجليل عروة بن الزبير بن العوام
ابن حواري رسول الله
صلى الله عليه وسلم
روي أن عروة خرج إلى
الوليد بن عبدالملك ، حتى إذا كان بوادي القرى .. فوجد في رجله شيئاً ، فظهرت به
قرحة الآكلة " الغرغرينة ".. ثم ترقى به الوجع ، وقدم على الوليد وهو في
محْمل ، فقيل : ألا ندعوا لك طبيباً ؟
قال : إن شئتم .
فبعث إليه الوليد
بالأطباء فأجمع رأيهم على أن لم ينشروها قتلته ، فقال شأنكم ..
فقالوا : اشرب المُرقد
، فقال : امضوا
لشأنكم ..ماكنت أظن أن خلقاً يشرب مايزيل عقله حتى لا يعرف ربه عز وجل ، ولكن
هلموا فاقطعوها .. قال :إن كنتم لا بد فاعلين فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة فإني لا
أحس بذلك ولا أشعر به .
وقال ابن قتيبة وغيره :
لما دعي الجزار ليقطعها قال له : نسقيك خمراً حتى لا تجد لها ألماً ، فقال : لا أستعين بحرام الله
على ما أرجو من عافية ، قالوا : فنسقيك المرقد ، قال : ما أحب أن اسلب عضواً من أعضائي وأنا لا أجد ألم
ذلك فأحتسبه
، قال : ودخل قوم أنكرهم .
فقال : ماهؤلاء ؟
قالوا : يمسكونك فإن
الألم ربما عَزَبَ معه الصبر ، قال : أرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي ... فوضع المنشار على
ركبته اليسرى فنشروها بالمنشار فما حرك عضواً عن عضو وصبر حتى فرغوا منها .. وهو يهلل ويكبر ، ثم إنه أغلي له
الزيت في مغارف الحديد فحسم به ، ثم غشي عليه .. وهو في ذلك كله كبير السن وإنه
لصائم فما تضور وجهه ، فأفاق وهو يمسح العرق عن وجهه .. ولما رأى رجله وقدمه في
أيديهم أو في الطست دعا بها فتناولها فقلبها في يده ثم قال : أما والذي حملني عليك
أنه ليعلم أني مامشيت بك إلى حرام ، أو قال : إلى معصية .
ثم أمر بها فغسلت وحنطت
وكفنت ولفت بقطيفه ثم أرسل بها إلى المقابر .
وكان معه في سفره ذلك
ابنه محمد ، ودخل محمد اصطبل دواب الوليد ، فرمحته دابة فخر ميتاً .. فأتى عروة
رجل يعزيه ، فقال : إن كنت تعزيني برجلي فقد احتسبتها . قال : بل أعزيك بمحمد ابنك ، قال : وماله ؟
فأخبره ، فقال : اللهم أخذت عضواً وتركت
أعضاء ، وأخذت ابناً وتركت أبناءًا ..
فكان الوليد بن
عبدالملك يبحث عن وسيله يخفف بها مصيبة عروه .. في فقد رجله و وابنه في ساعات
وايام معدودات .. واذ بجماعه من قبيلة بني عبس فيهم رجل ضرير يزورون الخليفه ..
فسأله الوليد عن سبب
عماه وكف بصره .. فقال يا امير المومنين .. قصتي و خبري عجيب ..
لم يكن في بني عبس رجلٌ
اوفر مني مالاً و لا اكثر اهلاً وولداً .. فسرتُ يوماً بمالي و عيالي في بطن وادي
.. ونزلت فيه مع منازل قومي فطرقنا سيل لم نرى مثله قط .. فذهب السيل بمالي و اهلي
وولدي .. ولم يترك لي غير بعير واحد وطفل صغير حديث الولاده .. فهرب البعير وتركت
الصغير على الارض لكي الحق بالبعير .. فما جاوزت مسافه الا وانا اسمع صيحة الطفل
.. فإذا براسه في فم الذئب وهو ياكله .. فرجعت لكي انقذ ابني من الذئب فحمله الذئب
وهرب به بعيداً .. ثم رجعت للبعير لكي انجو بنفسي .. فلما قربت البعير لكي امسك به
.. رمحني على وجهي رمحةً حطمت جبيني وذهبت ببصري .. فصرت يا امير المومنين في ليله
من غير اهل ولا ولد ولا مال ولا بصر ..!!
قال الوليد لحاجبه ..
خذ هذا الرجل واذهب الى ضيفنا عروة بن الزبير ليقص عليه قصته .. وليعلم كل صاحب
مصيبه ان في الناس من هو اعظم منه بلاءً .. فسرّ عروه بسماع قصة هذا الرجل وخففت
عنه مصيبته .. فما سمع منه شيء في ذلك حتى قدم المدينة فلما قدم المدينة .
ولما دخل المدينة أتاه
الناس يسلمون عليه ويعزونه في ابنه ورجله ، فبلغه أن بعض الناس ، قال :إنما اصابه
هذا بذنب عظيم أحدثه ، فأنشد عروة في ذلك متمثلاً أبياتاً لمعن بن أوس :
لعمـرك مـا أهويـت
كـفـي لريـبـة *** ولا حملتنـي نحـو فاحشـة رجلـي
ولا قادني سمعي ولا
بصري لهـا *** ولا دلني رأيـي عليهـا ولا عقلـي
ولسـت بـمـاشٍ ماحيـيـت
لمنـكـر *** من الأمر لا يمشي إلى مثله مثلي
ولا مؤثر نفسي علـى ذي
قرابـة *** وأوثر ضيفي ما أقام علـى أهلـي
وأعلـم أنـي لـم تصبنـي
مصيـبـة *** من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي
________________________________
هو عروة بن الزبير بن
العوام الأسدي القرشي. أبو عبد الله، أحد الفقهاء السبعة في المدينة. كان عالمًا
كريمًا، أبوه الزبير بن العوام أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحواري رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، المُلقبة بذات النطاقين، وخالته
عائشة أم المؤمنين، وجدته لأبيه عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وجده لأمه أبو بكر
الصديق صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته، وأخوه عبد الله بن الزبير. ولد في
آخر خلافة عمر بن الخطاب، وقيل: في بداية خلافة عثمان، ويُعد من الطبقة الثانية من
أهل المدينة من التابعين، وعاش بالمدينة وانتقل إلى البصرة ثم إلى مصر وعاد
إلى المدينة فتوفي فيها.